عملية "سوزانا" في سجلات المخابرات العسكرية الإسرائيلية ، التي عرفت فيما بعد باسم "فضيحة لافون" ، تعتبر من أشهر العمليات الإرهابية في العصر الحديث التي تسلط الضوء على دور إسرائيل التخريبي في المنطقة العربية بصفة عامة ومصر بصفة خاصة من خلال ما يسمى بـ "الضربات الوقائية" التي يتبناها "المحافظون الجدد" في الإدارة الأمريكية الحالية.
فتلك العملية تطلق على عمليات التفجير المدبرة التي شهدتها الأراضي المصرية عام 1954 واستهدفت على وجه الخصوص تدمير المنشآت الأمريكية والبريطانية، الموجودة في مصر، لأجل زعزعة الأمن المصري وتوتير العلاقات بين مصر والولايات المتحدة وعرقلة الخطط البريطانية بالجلاء عن مصر.
وترجع وقائعها إلى عام 1954 ، ففي هذا العام استقال ديفيد بن جوريون من رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع وجاء بدلا منه موشي شاريت في رئاسة الوزراء وبنحاس لافون في وزارة الدفاع، هذا في الوقت الذي كانت فيه مصر تتهيأ للحصول على الاستقلال التام من بريطانيا بسحب الأخيرة قواتها المرابطة في منطقة القناة، كما حاولت الإدارة الأمريكية الجديدة حينذاك بقيادة "ايزنهاور" فتح قنوات اتصال جيدة مع النظام المصري الجديد بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر وقد كانت رغبة واشنطن في ذلك عارمة للدرجة التي لم تكن تمانع فيها من كسب ود ناصر حتى لو كان الثمن التضحية جزئيا بإسرائيل.
ولذا سارعت إسرائيل لاجهاض هذا الانفتاح عبر خطة للتخريب والتجسس في مصر وضعتها المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي وكانت تقضي بقيام مجموعة من الشباب اليهودي بتنفيذ اعتداءات على دور السينما والمؤسسات العامة وبعض المؤسسات الأمريكية والبريطانية في مصر ، وذلك على أمل أن تؤدي نتائجها إلى تجميد الانسحاب البريطاني من مصر وتوتير العلاقات المصرية الأمريكية الناشئة وهى في مهدها.
بنحاس لافون وزير الدفاع الإسرائيلي أشرف بنفسه على التخطيط للعملية ولذا بعد إحباط السلطات المصرية لها اشتهرت باسم فضيحة لافون .
تفاصيل العملية
أسس بنحاس لافون في البداية ما سمي بالمجموعة "131" برئاسة المقدم موردخاي بن تسور، الذي قام بدوره بتكليف الرائد إبراهام دار في الجيش الإسرائيلي، بالسفر إلى مصر، والبدء في تجنيد العناصر اللازمة لتنفيذ الخطة.
وفي نهاية عام 1953 نجح دار في دخول مصر بجواز سفر لرجل أعمال بريطاني تحت اسم "جون دارلينج"، ولم تمض سوى أسابيع قليلة على استقراره في القاهرة، حتى تلقى دارلينج تعليمات بالتنفيذ وشملت العملية ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى
تم التركيز خلالها على السعي لإجهاض المحاولات التي بدأها مجلس قيادة الثورة للتوصل إلى اتفاقية لجلاء القوات البريطانية عن مصر بالعمل على إحداث حالة من التوتر الدائم في العلاقات الدبلوماسية بين مصر وبريطانيا، وخلق حالة من الفوضى الأمنية، باستهداف المراكز والمؤسسات الأجنبية في القاهرة والإسكندرية، وسيارات الممثلين الدبلوماسيين البريطانيين وغيرهم من الرعايا الإنجليز، إلى جانب بعض المنشآت العامة.
وبالفعل في 2 يوليو 1954 ، انفجرت ثلاثة صناديق في مبنى البريد الرئيس في الإسكندرية، لكن الحادث لم يسفر إلا عن أضرار طفيفة، عثر بعدها فريق التحقيقات المصري برئاسة الصاغ ممدوح سالم، وزير الداخلية فيما بعد، على بعض الأدلة وكانت عبارة عن علبة اسطوانية الشكل لنوع من المنظفات الصناعية كان شائعا في هذا الوقت، إلى جانب جراب نظارة طبية يحمل اسم محل شهير في الإسكندرية كان يملكه أجنبي يدعى "مارون أياك"، وقد تبين فيما بعد أن العلبة كانت تحتوى على مواد كيميائية، وقطع صغيرة من الفوسفور الأحمر.
المرحلة الثانية
لم يكد يمر سوى اثني عشر يوما على التفجير الأول، حتى استيقظت الإسكندرية في 14 يوليو على انفجار قنبلة في مبنى المركز الثقافي الأمريكي، وبينما كان فريق التحقيقات يواصل عمله على مسرح الحادث، كان هناك انفجار ثان يضرب المركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة، وقد عثر فريق التحقيقات على نفس البقايا للمواد الكيميائية، التي عثر عليها في تفجير 2 يوليو ، إلى جانب "جراب نظارة" مماثل لذلك الذي عثر عليه في مبنى البريد ، ووقتها عزت الصحف المصرية السبب في تلك التفجيرات الغامضة إلى "ماس كهربائي" .
المرحلة الثالثة
في 23 يوليو 1954 والذي يصادف الذكرى السنوية الثانية للثورة، كانت مجموعة "دارلينج" قد أنهت استعداداتها لوضع كميات مختلفة من المتفجرات في عدد من المرافق العامة في القاهرة والإسكندرية، من بينها محطة باب الحديد، ومسرح "ريفولي" بالقاهرة، وسينما "مترو" و"ريو" في الإسكندرية.
إلا أن المرحلة الثالثة كان مآلها الفشل وذلك بعد أن اشتعلت النيران فجأة في جيب أحد العملاء المكلفين بوضع المتفجرات بدار سينما "ريو"، وبينما كان المارة يهرعون إلى الرجل وقد أمسكت به النيران لإطفائه، ظنا منهم أنها محاولة انتحار، ساورت الشكوك رجل شرطة كان موجودا أمام دار العرض السينمائي، فاصطحب الرجل الذي أصيب بحروق إلى المستشفى، وأبلغ مرؤوسيه بالحادث الغريب.
في المستشفى صدر التقرير الطبي عن الحادث يقول إن جسم الشاب المحترق كان ملطخا بمسحوق فضي غريب، طال "جراب نظارة" يحملها في يده، مرجحا أن يكون الاشتعال قد نتج عن تفاعل كيميائي، وبتفتيش الشاب كانت المفاجأة ، حيث عثرت أجهزة الأمن معه على قنبلة أخرى عليها اسم "مارون أياك" صاحب محل النظارات.
في إفادته أمام جهاز المخابرات المصري اعترف اليهودي فيليب ناتاسون، البالغ من العمر 21 عاما، بعضويته في منظمة إرهابية هي المسئولة عن التفجيرات الغامضة ، وقد عثر في منزله حينذاك على مصنع صغير للمفرقعات وبعض الأواني التي تضم مواد كيميائية سريعة الاشتعال، وبعض القنابل الحارقة الجاهزة للاستخدام، فضلا عن بعض الأوراق التي تشرح طريقة صنع القنابل.